الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وتنقلنا سورة آل عمران إلى جو آخر بعيد عن الماضى وذكرياته الحلوة والمرة... إننى إنسان أعيش في هذا العالم، وأعرف قواه ونواميسه وخيراته ودلالاته! ألا يقودنى هذا إلى الله والتسبيح بحمده، والإقرار بمجده. لأترك جانبا الخلاف بين الأديان وأتباعها، ولأعول على عقلى الذي سأحاسب به! ولأفكر في مصيرى بعد هذه الدنيا! لماذا أنسى ربى وأبتعد عن صراطه المستقيم؟ يجب أن أنعطف إليه وألوذ به! وها قد ظهر إنسان يصيح بأهل الأرض أن يثوبوا إلى رشدهم ويؤمنوا بربهم. لماذا الصد عنه؟. ألا يستحق هذا الداعى المتجرد أن أصيح إليه، وأتدبر دعوته {ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار}. إن الله يجيب هذا الدعاء بأنه لا يضيع عمل عامل من الإنس أو الجن، من السود أو البيض، لا يهم العنصر أو النسب، المهم العمل الصالح. ماذا يتعاظم الناس عن الإيمان بإنسان يدعو إلى الصلاح على ضوء من الخشوع لله والاستعداد للقائه؟ ماذا في دعوته يؤلب القلوب ضده، أو يحرض الأحزاب على قتاله؟. لكن العميان من عبدة الأصنام والمتعصبين من أهل الكتاب تألبوا عليه، وقاتلوه.. واضطروا أتباعه إلى هجرة وطنهم وتحمل أنواع الأذى في سبيل معتقدهم، فليكن جزاؤهم كما وصف الله {فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار...} إن الكفار قد تعلو رايتهم، وتنتصر جيوشهم، ليكن، فذلك إلى حين {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد}. وقد غلب المشركون يوما في أحد، فماذا كان؟ توقف سيل الحق قليلا، ثم مضى تياره من بعد عاصفا لا يقفه شئ، والعاقبة للتقوى..! وختمت سورة آل عمران بعد هذا العرض المفصل بآيتين، أولاهما تتحدث عن أهل الكتاب، وما ينبغى منهم بإزاء النبي الخاتم {وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم}. والآية تتضمن إلى آخر الدهر دعاء إلى أهل الكتاب من يهود ونصارى أن يستمعوا إلى النبي الخاتم، ويؤمنوا بما جاء به. أما الآية الأخرى فهى قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون}. هذا توجيه للمسلمين الذين اتبعوا محمدا أن يصبروا على تعاليم الحق الذي شرفهم الله به، وأن يكونوا أصبر من غيرهم في هذا المجال، وأن يكونوا في رباط دائم حول ثغورهم وأراضيهم حتى لا تدخل عليهم من أقطارهما كما فعل الاستعمار الأخير! هذا نداء لنا، فهل نلبى النداء؟. اهـ.
.في رياض آيات السورة الكريمة: .فصل في أسرار ترتيب السورة: قال السيوطي:سورة آل عمران:قد تقدم ما يؤخذ منه مناسبة وضعها قال الإمام: لما كانت هذه السورة قرينة سورة البقرة، وكالملكة لها، افتتحت بتقرير ما افتتحت به تلك، وصرح في منطوق مطلعها بما طوى في مفهوم تلك وأقول: قد ظهر لي بحمد الله وجوه من المناسبات أحدها: مراعاة القاعدة التي قررتها، من شرح كل سورة لإجمال ما في السورة قبلها، وذلك هنا في عدة مواضع منها: ما أشار إليه الإمام، فإن أول البقرة افتتح بوصف الكتاب بأنه لا ريب فيه وقال في آل عمران: {نزل عليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بينَ يديه}: وذاك بسط وإطناب، لنفي الريب عنه ومنها: أنه ذكر في البقرة إنزال الكتاب مجملًا، وقسمه هنا إلى آيات محكمات، ومتشابهات لا يعلم تأويلها إلا الله ومنها: أنه قال في البقرة: {واللَهُ يؤتي ملكه من يشاء} وقال هنا: {قُل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير أنك على كل شيء قدير} فزاد إطنابًا وتفصيلًا ومنها: أنه حذر من الربا في البقرة، ولم يزد على لفظ الربا إيجازًا وزاد هنا قول: {أضعافًا مضاعفة} وذلك بيان وبسط ومنها: أنه قال في البقرة: {وأَتموا الحج} وذلك إنما يدل على الوجوب إجمالًا وفصله هنا بقوله: {وللهِ على الناس حج البيت} وزاد: بيان شرط الوجوب بقوله: {ومَن كفرَ فإِن اللَهَ غنيٌ عَن العالمين} ومنها: أنه قال في البقرة في أهل الكتاب: {ثم توليتم إلا قليلًا منكم} فأجمل القليل وفصله هنا بقوله: {ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون} ومنها: أنه قال في البقرة: {قُل أَتحاجونا في الله وهوَ رَبَنا وربُكُم ولنا أَعمالنا ولكُم أَعمالكم ونحن له مخلصون} فدل بها على تفضيل هذه الأمة على اليهود تعريضًا لا تصريحًا وكذلك قوله: {وكذلِكَ جعلناكُم أُمةٌ وسطًا} في تفضيل هذه الأمة على سائر الأمم بلفظ فيه يسير إبهام، وأتى في هذه بصريح البيان فقال: {كنتُم خيرَ أُمةٌ أُخرجَت للناس} فقوله: {كنتُم} أصرح في قدم ذلك من {جعلناكم} ثم وزاد وجه الخيرية بقوله: {تأمرونَ بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} ومنها: أنه قال في البقرة: {ولَا تأَكلوا أَموالكُم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام} وبسط الوعيد هنا بقوله: {إنَّ الذينَ يَشترونَ بعهدِ الله وأَيمانهم ثمنًا قَليلًا أُولئكَ لا خلاقَ لهُم في الآخرة}، وصدره بقوله: {وإِنَّ مِن أَهلِ الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إِليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائمًا ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل} فهذه عدة مواضع وقعت في البقرة مجملة، وفي آل عمران تفصيلها الوجه الثاني: أن بين هذه السورة وسورة البقرة اتحادًا، وتلاحمًا متأكدًا، لما تقدم من أن البقرة بمنزلة إزالة الشبهة، ولهذا تكرر هنا ما يتعلق بالمقصود الذي هو بيان حقيقة الكتاب: من إنزال الكتاب، وتصديقه للكتب قبله، والهدى إلى الصراط المستقيم وتكررت هنا آية: {قولوا آمنا بالله وما أَنزل} بكمالها، ولذلك أيضا ذكر في هذه ما هو تال لما ذكر في تلك، أو لازم في تلك، أو لازم له فذكر هناك خلق الناس، وذكر هنا تصويرهم في الأرحام وذكر هناك مبدأ خلق آدم، وكذر هنا مبدأ خلق اولاده وألطف من ذلك: أنه افتتح البقرة بقصة آدم حيث خلقه من غير أب ولا أم، وذكر في هذه نظيره في الخلق من غير أب، وهو عيسى عليه السلام، ولذلك ضرب له المثل بآدم، واختصت البقرة بآدم، لأنها أول السور، وآدم أول في الوجود وسابق، ولأنها الأصل، وهذه كالفرع والتتمة لها، فمختصة بالإعراب والبيان ولأنها خطاب لليهود الذين قالوا في مريم ما قالوا، وأنكروا وجود ولد بلا أب، ففوتحوا بقصة آدم، لتثبيت في أذهانهم، فلا تأتي قصة عيسى إلا وقد ذكر عندهم ما يشبهها من جنسها ولأن قصة عيسى قيست على قصة آدم في قوله: {كمثل آدم} الآية، والمقيس عليه لابد وأن يكون معلومًا، لتتم الحجة بالقياس، فكانت قصة آدم والسورة التي هي فيها جديرة بالتقدم ومن وجوه تلازم السورتين: أنه قال في البقرة في صفة النار: {أُعِدت للكافرينَ}، ولم يقل في الجنة: أعدت للمتقين، مع افتتاحها بذكر المتقين والكافرين معًا، وقال ذلك في آخر آل عمران في قوله: {جنَةٌ عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين} فكان السورتين بمنزلة سورة واحدة وبذلك يعرف أن تقديم آل عمران على النساء أنسب من تقديم النساء عليها وأمر آخر استقرأته، وهو: أنه إذا وردت سورتان بينهما تلازم واتحاد، فإن السورة الثانية تكون خاتمتها مناسبة لفاتحة الأولى للدلالة على الاتحاد وفي السورة المستقلة عما بعدها يكون آخر السورة نفسها مناسب لأولها وآخر آل عمران مناسب لأول البقرة، فإنها افتتحت بذكر المتقين، وأنهم المفلحون.وختمت آل عمران بقوله: {واتقوا الله لعلكم تفلحون} وافتتحت القرة بقوله: {والذينَ يؤمنونَ بما أُنزلَ إِليكَ وما أُنزلَ من قبلك} وختمت آل عمران بقوله: {وإِنَ من أَهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم} فلله الحمد على ما ألهم وقد ورد أنه لما نزلت: {من ذا الذي يقرض الله قرضًا حسنًا} قال اليهود: يا محمد، افتقر ربك، فسأل القرض عباده، فنزل قوله: {لقد سمِعَ الله قولَ الذينَ قالوا إِنَّ الله فقير ونحنُ أَغنياء} فذاك أيضا من تلازم السورتين ووقع في البقرة حكاية عن إبراهيم: {ربنَّا واربعث فيهم رسولًا منهم يتلو عليهم آياتك} ونزل في هذه: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولًا من أَنفُسَهُم يتلو عليهم} وذلك أيضا من تلازم السورتين. اهـ..تفسير الآيات (1- 2): قوله تعالى: {الم (1) الله لا إله إلا هو الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)}.مناسبة الآية لما قبلها: قال البقاعي:{بسم الله} الواحد المتفرد بالإحاطة بالكمال {الرحمن} الذي وسعت رحمة ايجاد كل مخلوق وأوضح للمكلفين طريق النجاة {الرحيم} الذي اختار أهل التوحيد لمحل أنسه وموطن جمعه وقدسه {الم} المقاصد التي سيقت لها هذه السورة إثبات الوحدانية لله سبحانه وتعالى، والإخبار بأن رئاسة الدنيا بالأموال والأولاد وغيرهما مما آثره الكفار على الإسلام غير مغنية عنهم شيئًا في الدنيا ولا في الآخرة، وأن ما أعد للمتقين من الجنة والرضوان هو الذي ينبغي الأقبال عليه والمسارعة اليه وفي وصف المتقين بالإيمان والدعاء والصبر والصدق والقنوت والإنفاق والاستغفار ما يتعطف عليه كثير من أفانين أساليب هذه السورة هذا ما كان ظهر لي أولًا، وأحسن منه أن نخص القصد الأول وهو التوحيد بالقصد فيها فإن الأمرين الآخرين يرجعان إليه، وذلك لأن الوصف بالقيومية يقتضي القيام بالاستقامة، فالقيام يكون على كل نفس، والاستقامه العدل كما قال: {قائمًا بالقسط} [آل عمران: 18] أي بعقاب العاصي وثواب الطائع بما يقتضي للموفق ترك العصيان ولزوم الطاعة؛ وهذا الوجه أوفق للترتيب، لأن الفاتحة لما كانت جامعة للدين إجمالًا جاء به التفصيل محاذيًا لذلك، فابتدئ بسورة الكتاب المحيط بأمر الدين، ثم بسورة التوحيد الذي هو سر حرف الحمد وأول حروف الفاتحة، لأن التوحيد هو الأمر الذي لا يقوم بناء إلا عليه، ولما صح الطريق وثبت الأساس جاءت التي بعدها داعية إلى الاجتماع على ذلك؛ وأيضا فلما ثبت بالبقرة أمر الكتاب في أنه هدى وقامت به دعائم الإسلام الخمس جاءت هذه لإثبات الدعوة الجامعة في قوله سبحانه وتعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} [البقرة: 21] فأثبت الوحدانيه له بإبطال إلهيه غيره بإثبات أن عيسى عليه الصلاة والسلام الذي كان يحيي الموتى عبده فغيره بطريق الأولى، فلما ثبت أن الكل عبيده دعت سورة النساء إلى إقبالهم إليه واجتماعهم عليه؛ ومما يدل على أن القصد بها هو التوحيد تسميتها بآل عمران، فإن لم يعرب عنه في هذه السورة ما أعرب عنه ما ساقه سبحانه وتعالى فيها من أخبارهم بما فيها من الأدلة على القدرة التامة الموجبة للتوحيد الذي ليس في درج الإيمان أعلى منه، فهو التاج الذي هو خاصة الملك المحسوسة، كما أن التوحيد خاصته المعقولة، والتوحيد موجب لزهرة المتحلي به فلذلك سميت الزهراء.القصد الأول التوحيد:ومناسبة هذا الأول بالابتدائية لآخر ما قبلها أنه لما كان آخر البقرة في الحقيقة آية الكرسي وما بعدها إنما هو بيان، لأنها أوضحت أمر الدين بحيث لم يبقى وراءها مرمى لمتنعت، أو تعجب من حال من جادل في الإلهية أو استبعد شيئًا من القدرة ولم ينظر فيما تضمنته هذه الآية من الأدله مع وضوحه، أو إشارة إلى الاستدلال على البعث بأمر السنابل في قالب الإرشاد إلى ما ينفع في اليوم الذي نفى فيه نفع البيع والخلة والشفاعة من النفقات، وبيان بعض ما يتعلق بذلك، وتقرير أمر ملكه لما منه الإنفاق من السماوات والأرض، والإخبار بإيمان الرسول وأتباعه بذلك، وبأنهم لا يفرقون بين أحد من الرسل المشار إليهم في السورة، وبصدقهم في التضرع برفع الأثقال التي كانت على من قبلهم من بني إسرائيل وغيرهم، وبالنصرة على عامة الكافرين؛ لما كان ذلك على هذا الوجه ناسب هذا الاختتام غايه المناسبة ابتداء هذه السورة بالذي وقع الإيمان به سبحانه وتعالى ووجهت الرغبات آخر تلك إليه؛ وأحسن منه أنه لما نزل إلينا كتابه فجمع مقاصده في الفاتحه على وجه أرشد فيه إلى سؤال الهداية ثم شرع في تفصيل ما جمعه في الفاتحة، فأرشد في أول البقرة إلى أن الهدايه في هذا الكتاب، وبيّن ذلك بحقية المعنى والنظم كما تقدم إلى أن ختم البقرة بالإخبار عن خلص عباده بالإيمان بالمنزل بالسمع والطاعة، وأفهم ذلك مع التوجه بالدعاء إلى المنزل له أن له سبحانه وتعالى كل شيء وبيده النصر، علم أنه واحد لا شريك له حي لا يموت قيوم لا يغفل وأن ما أنزل هو الحق، فصرح أول هذه بما أفهمه آخر تلك، كما يصرح بالنتيجة بعد المقدمات المنتجة لها فقال: {الله} أي الذي لا يذل من والاه ولا يعز من عاداه لأن له الإحاطة بجميع أوصاف الكمال والنزاهة الكاملة من كل شائبة نقص.وقال الحرالي مشيرًا إلى القول الصحيح في ترتيب السور من أنه باجتهاد الصحابة رضوان الله تعالى عليهم إقرارًا لله سبحانه وتعالى لهذا الانتظام والترتيب السوري في مقرر هذا الكتاب: هو ما رضيه الله سبحانه وتعالى فأقره؛ فلما كانت سورة الفاتحة جامعة لكلية أمر الله سبحانه وتعالى فيما يرجع إليه، وفيما يرجع إلى عبده، وفيما بينه وبين عبده، فكانت أم القرآن وأم الكتاب؛ جعل مثنى تفصيل ما يرجع منها إلى الكتاب المنبأ عن موقعه في الفاتحة مضمنًا سورة البقرة إلى ما أعلن به، لألأ نور آية الكرسي فيها، وكان منزل هذه السورة من مثنى تفصيل ما يرجع إلى خاص علن الله سبحانه وتعالى في الفاتحة، فكان منزلة سورة آل عمران منزله تاج الراكب وكان منزله سورة البقرة منزلة سنام المطية؛ قال صلى الله عليه وسلم: «لكل شيء سنام وسنام القرآن سورة البقرة، لكل شيء تاج وتاج القرآن سورة آل عمران» وإنما بدئ هذا الترتيب لسورة الكتاب لأن علم الكتاب أقرب إلى المخاطبين من تلقي علن أمر الله، فكان في تعلم سورة البقرة والعمل بها تهيؤ لتلقي ما تضمنته سورة آل عمران ليقع التدرج والتدرب بتلقي الكتاب حفظًا وبتلقيه على اللقن منزل الكتاب بما أبداه علنه في هذه السورة؛ وبذلك يتضح أن إحاطة {الم} المنزلة في أول سورة البقرة إحاطة كتابية بما هو قيامه وتمامه، ووصلة ما بين قيامه وتمامه، وأن إحاطة {الم} المنزلة في أو هذه السورة إحاطة إلهية حيايية قومية مما بين غيبة عظمة اسمه {الله} إلى تمام قيوميته البادية في تبارك ما أنبأ عنه اسمه {الحي القيوم} وما أوصله لطفه من مضمون توحيده المنبئ عنه كلمه الإخلاص في قوله: {لا إله إلا هو} فلذلك كان هذا المجموع في منزله قرآنًا حرفيًا وقرآنًا كلميًا اسميًا وقرآنًا كلاميًا تفصيليا مما هو اسمه الأعظم كما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: «اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: {وإلهكم أله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم} [البقرة: 163]، {الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم}» وكما وقعت إلماحة في سورة البقرة لما وقع بها الإفصاح في سورة آل عمران كذلك وقع في آل عمران من نحو ما وقع تفصيله في سورة البقرة ليصير منزلًا واحدًا بما أفصح مضمون كل سورة بالإحة الأخرى، فلذلك هما غمامتان وغيايتان على قارئهما يوم القيامة كما تقدم لا تفترقان، فأعظم {الم} هو مضمون {الم} الذي افتتحت به هذه السورة ويليه في الرتبة ما افتتحت به سورة البقرة، ويليه في الرتبة ما افتتحت به سور الآيات نحو قوله سبحانه وتعالى: {الم تلك آيات الكتاب الحكيم} [لقمان: 2] فللكتاب الحكيم إحاطة قوامًا وتمامًا ووصلة، ولمطلق الكتاب إحاطة كذلك، وإحاطه الإحاطات وأعظم العظمة إحاطة افتتاح هذه السورة؛ وكذلك أيضا اللواميم محيطة بإحاطة الطواسيم لما تتخصص به معاني حروفها من دون إحاطات حروف اللواميم، وإحاطة الحواميم من دون إحاطة الطواسيم لما تتخصص به معاني حروفها من دون إحاطات حروف الطواسيم على ما يتضح تراتبه وعلمه لمن آتاه الله فهمًا بمنزله قرآن الحروف المخصوص بإنزاله هذه الأمة دون سائر الأمم، الذي هو من العلم الأزلي العلوي؛ ثم قال: ولما كانت أعظم الإحاطات إحاطة عظمة اسمه الله الذي هو مسمى التسعة والتسعين أسماء التي أولها {إله} كان ما أفهمه أول الفهم هنا اسم ألف بناء في معنى إحاطات الحروف على نحو إحاطة اسمه الله في الأسماء، فكانت هذه الألف مسمى كل ألف كما كان اسمه {الله} سبحانه وتعالى مسمى كل اسم سواه حتى أنه مسمى سائر الأسماء الأعجمية التي هي أسماؤه سبحانه وتعالى في جميع الألسن كلها مع أسماء العربية أسماء لمسمى هو هذا الاسم العظيم الذي هو {الله} الأحد الذي لم يتطرق إليه شرك، كما تطرق إلى أسمائه من اسمه {إله} إلى غايه اسمه الصبور وكما كان إحاطة هذا الألف أعظم إحاطة حرفية وسائر الألفات أسماء لعظيم إحاطتة؛ وكذلك هذه الميم أعظم إحاطة ميم تفصلت فيه وكانت له أسماء بمنزلة ما هي سائر الألفات أسماء لمسمى هذا الألف كذلك سائر الميمات اسم لمسمى هذا الميم، كما أن اسمه {الحي القيوم} أعظم تمام كل عظيم من أسماء عظمته؛ وكذلك هذه اللام بمنزلة ألفه وميمه، وهي لام الإلهية الذي أسراره لطيف التنزل إلى تمام ميم قيوميته؛ فمن لم ينته إلى فهم معاني الحروف في هذه الفاتحة نزل له الخطاب إلى ما هو إفصاح إحاطتها في الكلم والكلام المنتظم في قوله: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}، فهو قرآن حرفي يفصله قرآن كلمي يفصله قرآن كلامي انتهى.
|